إعجازات قرآنية في وظائف جلدية
بقلم الدكتور كارم غنيم
رئيس جمعية الإعجاز العلمي للقرآن في القاهرة
يقول الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)[سورة النساء].
يخبر الله تعالى في هذه الآية عما يعاقب به في نار جنهم من كفر بآياته، وصد عن رسله، بأنه يسدخلهم ناراً دخولاً يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، وأنه كلما احترقت جلودهم، بدلوا جلوداً غيرها، وفي رواية مائة وعشرين مرة، وكلتا الروايتين عن عمر يرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول صاحب (الأساس في التفسير) : يختم الله عز وجل الآية بوصف ذاته بالعزة والحكمة، وهما يفيدان في هذا المقام غلبة الله بالانتقام، وأنه لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، وعقوبته لهم هي الحكمة عينها. ويقول صاحب (روح المعاني) : (كلما نضجت جلودهم) أي : احترقت عند احتراقه جلداً جديداً مغايراً للمحترق صورة وإن كان مادته الأصلية موجودة. ويقول ابن عجيبة في (البحر المديد) : وإنما بدلت جلودهم (ليذوقوا) ألم " العذاب" أي : يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها، فلا محذور، (إن الله كان عزيزاً) لا يمتنع عليه ما يريده، (حكيماً) يعاقب على قدر حكمته.
وفي تبديل الجلود أثناء العذاب أسئلة يعرضها صاحب (مفاتيح الغيب)، ويجيب عنها، ونوجز كلامه فيما يلي:
السؤال الأول :لما كان الله تعالى قادراً على إبقائهم (أي الكفار)أحياء في النار أبد الآباد، فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل إليها الآلام الشديدة، حتى لا يحتاج إلى تبديل جلودهم بجلود أخرى؟ والجواب : أنه تعالى لا يسأل عما يفعل، بل نقول : إنه تعالى قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاماً عظيمة من غير إدخال النار مع أنه تعالى أدخلهم النار.
السؤال الثاني:الجلود العاصية إذا احترقت، فلو خلق الله مكانها جلوداً أخرى وعذبها كان هذا تعذيباً لمن لم يعص وهو غير جائز؟ والجواب: هنا وجوه، منها : أن يجعل النضج غير النضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة، فإذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي، وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة .. المعذب هو الإنسان، وذلك لأن الجلد ما كان جزءً من ماهية الإنسان، فإذا جدد الله الجلد وصار ذلك الجلد الجديد سبباً لوصول العذاب إليه لم يكن ذلك تعذيباً إلا للعاصي.. وكلما ظنوا أنهم احترقوا ونضجوا وانتهوا إلى الهلاك أعطاهم الله قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم يحدثوا ويجددوا فيكون المقصود من (بدلناهم جلوداً غيرها) بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه .. وبنحو هذا كان فهم النيسابوري في تفسيره المسمى( غرائب القرآن ورغائب الفرقان) .
ونعود إلى شهاب الدين الألوسي في تفسيره (روح المعاني)، لنجد يشرح (ليذوقوا العذاب) فيقول: ..
والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث أنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه، أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث أن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيراً، أو على سرايته للباطن .
ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق، أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق .
وقيل : السر في ذلك أن النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن.
الشبكة العصبية في الجلد:
الجلد أكبر أعضاء جسم الإنسان، من حيث المساحة، فمتوسط مساحته هو 1.8 متر مربع، وهو يحيط بالجسم كله فيحميه ويكسبه مظهر جميلاً، كما أنه يتلقى المؤثرات الواقعة على الجسم من خارجه، وتظهر عليه انفعالات الجسم.
يتركب الجلد، كما توصلت إليه البحوث الحديثة ـ من ثلاثة طبقات، الخارجية (السطحية) الرقيقة، تسمى البشرة[ Epidermis] والوسطى(المتوسطة)، وتسمى الأدمة [ Dermis]، وهي الجلد الحقيقي، والداخلية (السفلى ) وتسمى النسيج تحت الجلد[ Subcutaneus tissue] وأما البشرة فهي طبقة خالية من الأوعية الدموية،وتقوم بحماية الجسم من التأثيرات الخارجية والصدمات. وهي أرق طبقات الجلد، وإن كانت تتألف من أربع طبقات ثانوية، بالإضافة إلى طبقة خامسة في مناطق مثل راحة اليد وباطن القدم، وتسمى "الطبقة الصافية" أي : " الطبقة الرائقة" .
وأما الأدمة فتحتوي أوعية دموية، وغدد عرقية، وبصيلات الشعر، والنهايات العصبية المستقبلة للألم والشعور بالحرارة والبرودة واللمس وخلافه، كما أنها هي التي تحدد " تخانة" الجلد في مناطق مثل: راحة اليد وباطن القدم. وتتراوح تخانة الجلد بين 2/1 ـ 5 ملليميترات، حسب مناطق الجسم.
وهكذا يتضح بالتشريح الدقيق للجلد وجود شبكة من الألياف العصبية، توجد بها نهايات عصبية حرة، في طبقات الجلد، وتقوم هذه النهايات باستقبال جميع المؤثرات الواقعة على الجلد من البيئة الخارجية المحيطة به، من درجة حرارة، إلى رطوبة، إلى ضغط، إلى لمس، إلى ألم .. الخ ..
كما تتحمل هذه الشبكة العصبية المسؤولية في تنظيم عمل المكونات الأخرى الموجودة بالجلد، مثل : الغدد الجلدية وأجربة [ Follicles] الشعر والأوعية الدموية [ Blood vessels] .
ومما يذكر في هذا المقام أن الطبقة السفلى " تحت الأدمة " غنية بالنهايات العصبية المسئولة عن الإحساس بالضغط لكنها ـ أي : أن الطبقة السفلى ـ فقيرة في مستقبلات الألم واللمس وتتبادل هذه النهايات العصبية [ المستقبلات ـ Receptors]الألم والشعور به، وفيها المسئول عن اللمس " الاحتكاك " والضغط .. الخ .
وخلاصة القول : إن الجلد عضو إحساس من الطراز الأول، وجه خريطة مدهشة من الأعصاب، لم يتم الكشف عنها إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، بعد تقدم وسائل البحوث الحديثة في كل من علم التشريح[ Anatomy]، وعلم الأنسجة [ Histology] وغيرها من العلوم.
إننا لن نفصل القول في الآلية (الميكانيكية) التي تعمل بها الأعصاب في جسم الإنسان، فمن يريد هذا التفصيل عليه مطالعة الكتب الطبية، ولسوف نوجز فنقول : إن هذه المستقبلات الحسية المنتشرة في طبقات الجلد تستقبل المؤثرات البيئية الواقعة عليها طوال اليوم، ويتحول كل مؤثر (حرارة أو لمس أو ضغط أو كي أوغيرها) إلى نبضات كهربائية [ Electric impulses] بداخل الأعصاب التي توجد هذه المستقبلات بأطرافها، وتنتشر وتنتقل هذه النبضات على امتداد هذه الأعصاب إلى الدماغ (المخ ) ـ وهو المركز الرئيسي في الجهاز العصبي للإنسان ـ فتتم ترجمة المؤثر المستقبل [ Received stimulus] وبيان نوعه، وتحديد الاستجابة [ Response] المناسب تجاهه، إن كانت بالسلب أم بالإيجاب. أما في الأولى فتنفعل عضلات الإنسان لإبعاده عن موقع المؤثر السيئ، وأما في الثانية فتنفعل عضلاته نحو هذا المؤثر وتقترب منه أكثر